القطط حيوانات اجتماعية أليفة اعتاد البشر رؤيتها حولهم منذ أقدم العصور. البعض يحبها ويشفق عليها لجمالها وذكاءها، و البعض يمقتها لأنها تتسلل خلسة إلى مطبخه وتعبث بطعامه. وهناك أيضا من يخشاها ولا يشعر بالراحة لوجودها، هؤلاء يخافون من عيونها بشكل خاص، فهي تحدق أحيانا بطريقة غريبة تبدو معها وكأنها تعي وتفهم، كأنها تود الحديث عن شيء ما. وبسبب هذا الغموض الذي يحيط بالقطة فقد أرتبط أسمها منذ القدم بالكثير من الأساطير والخرافات، فقالوا بأن للقطة سبعة أرواح، وقالوا بأنها تستطيع الإحساس بوجود الجن والأشباح، وبأن القطة السوداء هي من الجن. بالطبع معظم الناس في أيامنا هذه لا يؤمنون بتلك الخرافات القديمة، وربما سخروا منها. لكنهم قد يعيدون النظر في حساباتهم إذا ما سمعوا بقصة اوسكار Oscar ذلك المخلوق الصغير الذي حير العلماء وجعل الكثير من الناس يتساءلون عن مدى الحد الفاصل بين الحقيقة والخرافة.
أوسكار لمن لا يعرفه هو قط بدأت حكايته الغريبة عام 2005 في ولاية رود آيلاند الأمريكية. ففي تلك السنة قررت إحدى أقدم وأعرق المؤسسات الصحية في الولاية، وهي مصحة "ستير لرعاية المسنين" أن تتبنى قطا جديدا من أجل إضافته إلى مجموعة القطط والحيوانات الأليفة التي تظيف جو من الألفة والمرح يعود بالنفع والفائدة على نفسيات ومعنويات النزلاء والعاملين في نفس الآن. ولغرض الحصول على القط الجديد قام بعض موظفو المصحة بزيارة ملجأ للحيوانات المشردة حيث وقع اختيارهم على قطيط صغير أبيض ورمادي اللون عمره شهر واحد أطلقوا عليه لاحقا أسم "اوسكار".
أوسكار عاش في الطابق الثالث من المصحة، وهو طابق مخصص للعناية بالمرضى المصابين بالخرف، بعبارة أخرى هو المكان الذي تذهب أليه جميع الحالات الميئوس منها، أي المرضى المسنين الذين يتوقع أن يموتوا قريبا. اوسكار الصغير سرعان ما شب ليصبح هرا جميلا خلال شهور قليلة فقط، وبالرغم من رعايته وتربيته على يد البشر منذ نعومة أظفاره، إلا إنه حرص دائما على إبقاء مسافة فاصلة بينه وبينهم، لم يكن بذلك القط الذي يتودد إلى الناس ويمسح ظهره بأقدامهم في غنج ودلال، ولا كان ليجلس في أحضانهم ويدعهم يداعبون فراءه الجميل الناعم بأصابعهم. أوسكار لم يكن من ذلك النوع من القطط بل كان قطا غامضا في تصرفاته، لا يحبذ أن يلمسه أحد سوى عدد قليل من الممرضات اللواتي ساهمن في تربيته، وقد يختفي أحينا لساعات طويلة ثم يظهر فجأة متجولا بين الردهات والغرف ليتفقد المرضى تماما كما يفعل الأطباء والممرضون.
وما أن أتم اوسكار عامه الأول داخل المصحة حتى أخذ العاملون يلاحظون سلوكا عجيبا طرأ فجأة على تصرفاته وجعله مميزا عن غيره من القطط الموجودة في المصحة. فأوسكار كما أسلفنا لم يكن يتودد للبشر ويحاول قدر الإمكان الابتعاد عن طريقهم، وما كان ليرضى طبعا بالجلوس إلى جانب المرضى في أسرتهم مهما حاولوا التودد أليه. لكن نفوره الفطري من البشر لم يكن ينطبق على المرضى المحتضرين، فأينما كان هناك مريض يحتضر داخل الطابق الثالث كان اوسكار يظهر فجأة ليعتلي سرير ذلك المريض ويرقد إلى جانبه وسط دهشة الجميع، كان يجلس بهدوء واضعا رأسه على جسد المريض كأنه يطيب عنه ويواسيه، وما أن تغادر الروح جسد ذلك المريض حتى ينتفض أوسكار من مكانه ويغادر السرير على الفور كأنه أدرك بأن جليسه فارق الحياة. وغالبا ما كانت المدة التي تفصل بين ظهور اوسكار وموت المريض لا تتجاوز الساعتين.
في البداية لم يصدق أحد من الأطباء والعاملين في المصحة بأن الهر أوسكار بإمكانه حقا أن يستشعر ويتنبأ بموت البشر، هذا مستحيل طبعا فهو في النهاية مجرد حيوان لا يعقل، أليس كذلك؟
الفراعنة القدماء يقولون كلا... فأولئك الفلاسفة والروحانيين أمنوا بأن القطط هي تجسيد حي لروح الآلهة، أمنوا بأنها ترى وتسمع ما لا نراه ونسمعه لهذا احترموها وقدسوها إلى درجة أنهم كانوا يحنطوها ويقيمون العزاء لموتها. لكن أطباء مصحة ستير ما كانوا ليؤمنوا طبعا بما يقوله الفراعنة. التفسير المنطقي الوحيد الذي بدا مقنعا بالنسبة لهم هو أن تزامن ظهور أوسكار مع موت المرضى هو مجرد مصادفة لا أكثر.
لكن مصادفات أوسكار أصبحت أكثر تكرارا يوما بعد آخر، الأمر الذي زاد من حيرة وذهول الجميع .. في إحدى المرات كانت هناك سيدة عجوز من نزلاء المصحة مصابة بتخثر الدم في ساقها، كانت في غيبوبة، وكانت ساقها متيبسة وباردة بسبب عدم وصول الدم إليها، لكن الأطباء لم يكونوا يتوقعون موتها قريبا، أو هكذا ظنوا حتى ظهر اوسكار فجأة واعتلى سريرها، جلس عند ساقها المصابة وأحاطها بفرائه الناعم كأنه يحاول تدفئتها، وبعد قرابة الساعتين نهض من مكانه وغادر بهدوء، كانت العجوز قد ماتت.
وفي مرة أخرى دخل أوسكار إلى غرفة أحد المرضى، اعتلى السرير ثم جلس كعادته بهدوء بجوار المريض العجوز الذي كان نائما، لكن عائلة المريض لم يحبذوا وجود أوسكار، خشوا أن يقلق راحة مريضهم فطلبوا أخراجه من الغرفة، وبالفعل حملته إحدى الممرضات برفق ثم رمته خارج الغرفة. لكن ما حدث بعد ذلك أذهل الجميع، فالهر العنيد لم يذهب بعيدا، بدأ بالمواء بصوت أشبه بالبكاء، وراح يطرق الباب ويخربشه بمخالبه كأنه يطلب الأذن بالدخول، وما أن فتحوا له الباب ثانية حتى ركض وقفز مجددا إلى سرير العجوز المريض الذي فارق الحياة خلال الساعتين التاليتين. وهذه المرة أيضا لم يكن الأطباء يتوقعون موت ذلك المريض.
الجدل حول قدرات أوسكار بدأ يتزايد يوما تلو آخر داخل المصحة. فريق أمنوا بقدراته، وفريق رفضوها رفضا قاطعا. وفي النهاية قرر كلا الفريقان إخضاع أوسكار لاختبار يقطع شكهم باليقين. فقد كان هناك مريض عجوز يحتضر في إحدى غرف الطابق الثالث، وكان متوقعا أن يفارق الحياة خلال أقل من ساعة، لذلك أحضروا أوسكار إلى غرفة ذلك المريض وأجلسوه على سريره، قالوا بأن بقاءه بجوار المريض المحتضر سيؤكد حتما قدراته الخارقة، أما إذا حدث العكس، أي إذا ترك اوسكار السرير ورحل قبل موت المريض فأن ذلك سيعني بأنه لا يتمتع بأي قدرة في التنبؤ بالموت وبأن الأمر برمته ليس أكثر من مجرد مصادفة. ووسط فرحة المشككين وخيبة المؤمنين شاهد الجميع اوسكار وهو يغادر السرير بعد لحظات قليلة من وضعه فيه، وهو الأمر الذي عده فريق المشككين دليلا قاطعا على أن موهبة أوسكار المزعومة هي وهم لا صحة له لأنه لم يستطع أن يدرك بأن المريض في حالة النزع الأخير.
لكن سعادة المشككين لم تدم طويلا، فعلى العكس من كل التوقعات لم يمت العجوز المحتضر خلال ساعة كما توقع الأطباء، بل فاجأ الجميع وتشبث بالحياة لعشرة ساعات أخرى. وقبل موته بفترة قصيرة ظهر أوسكار مجددا، هذه المرة من تلقاء نفسه، اعتلى سرير العجوز برشاقة وجلس إلى جواره بهدوء كما يفعل كل مرة، وبعد أقل من ساعتين فارق العجوز الحياة وسط ذهول كل من المؤيدين والمشككين. فقد تفوق اوسكار على الأطباء وأجهزتهم ومعداتهم المتطورة في التنبؤ بموعد الموت الدقيق للمريض. خلال العامين التاليين تنبأ اوسكار بموت 25 مريض. ولم يعد أحد يشكك بقدراته، بل راح العاملين في المصحة يراقبون جولاته التفقدية باهتمام بالغ، وصار جلوسه إلى جوار احد المرضى بمثابة العلامة الفارقة على أن الموت سيحيط بذلك المريض قريبا. فكان كادر المستشفى يسارعون إلى الاتصال بعائلة المريض طالبين منهم الحضور فورا لأن مريضهم سيموت خلال ساعات قليلة.
برغم شهرة اوسكار داخل المصحة إلا أن العالم لم يسمع بموهبته وقدراته العجيبة إلا في عام 2007 حين كتب عنه الدكتور دافيد دوزا مقالا موسعا في مجلة (NEJM ) الطبية، وهي واحدة من أقدم وأكثر المجلات الطبية رصانة في الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين أصبح أوسكار محط اهتمام الصحافة والناس. وقد ظن العاملون في المصحة بأن شهرة اوسكار وذيوع صيته سيتسبب في غضب عائلات المرضى واستنكارهم لتواجده بالقرب من مرضاهم، لكن على العكس من ذلك، لاحظ الجميع بأن تلك العائلات الحزينة كانت تشعر بالامتنان لتواجد الهر الجميل قرب أحبائهم في ساعاتهم الأخيرة، كان بنظرهم كملاك الرحمة الذي يخفف وجوده من آلام الاحتضار والنزع الأخير. وبحسب الموقع الالكتروني لمصحة ستير فأن اوسكار تنبأ بـ 50 وفاة أخرى حتى عام 2010.
تفسيرات علمية
بطبيعة الحال ما كان العلماء ليؤمنوا بالخرافات، وما كانوا ليقبلوا أبدا بالتفسير القائل بأن القطط لديها قدرة فائقة على استشعار وتحديد حركة الطاقات والهالات الأثيرية غير المرئية، أي ما يتعارف عليه الناس بأسم الروح والجن والأشباح. لكن العلماء يؤمنون من جهة أخرى بأن الحيوانات لديها بالفعل قدرات فائقة لا يمتلكها البشر، ليست قدرات غيبية وما ورائية بالتأكيد، لكنها قدرات حسية استشعارية. إذ لا يختلف اثنان في أن حواس الحيوانات هي أقوى من حواسنا بمرات عديدة، خاصة حاستي الشم والسمع، وعليه فأن التفسير الأكثر عقلانية لقدرات اوسكار الخارقة يركز على حاسة الشم لدى القطط.
فالخلايا المحتضرة تبدأ بإطلاق إنزيمات ومواد كيميائية معينة داخل الجسم البشري قبل الوفاة بفترة قصيرة من أجل تهيئة الجسم لمرحلة التحلل التي تعقب الموت، ويعتقد العلماء أن اوسكار ومن خلال وجوده داخل المصحة تمكن من تطوير موهبة خاصة في تمييز رائحة تلك الإنزيمات والمواد الكيميائية التي يطلقها الجسد ساعة موته. وعن طريق التقاط تلك الرائحة يتمكن من معرفة وتحديد موعد موت المرضى. "ربما باستطاعته تمييز رائحة محددة مرتبطة بالموت". هكذا يقول الدكتور دوزا معلقا على قدرات اوسكار. وهذا هو بالضبط ما تعتقده البرفسورة جوان تينو، وهي أستاذة جامعية متخصصة في مجال الصحة، حيث تقول : "أنا اعتقد بأن هناك مواد كيميائية معينة تطلق داخل الجسد عند الاحتضار، واوسكار يستطيع شم وتمييز رائحة تلك المواد". أما مارجي سكريك المتخصصة بعلم سلوك الحيوان في جامعة بريتش كولومبيا فتقول : "أظن بأنه يشم رائحة مواد كيميائية معينة تطلق داخل الجسد قبل الموت، فالقطط بإمكانها أن تشم الكثير من الروائح التي لا نتمكن نحن البشر من شمها، بإمكانها حتى شم رائحة المرض".
وهناك رأي آخر بشأن اوسكار يطرحه متخصص آخر في علم سلوك الحيوان هو الدكتور دانيال استيب الذي يقول بأن : "أحدى الأمور المميزة بالنسبة للأشخاص الذين على وشك الموت هو أنهم لا يتحركون كثيرا، وربما يكون اوسكار قد التقط هذه الحقيقة في أن الأشخاص المحتضرين يكونون في غاية السكون والهدوء. أنا أظن بأن الأمر لا يتعلق بالرائحة أو الأصوات الصادرة عن المريض، لكنه يتعلق بالحركة". أما الدكتور توماس جرافيس المتخصص بدراسة السنوريات في جامعة الينوى فقد تحدث للبي بي سي عن قدرات القطط قائلا : "القطط غالبا ما تستطيع الإحساس والشعور بمرض أصحابها، وحتى بمرض الحيوانات الأخرى. وبإمكانها الإحساس بتغير الجو، وهي مشهورة كذلك بقدرتها الكبيرة في التنبؤ بالهزات الأرضية".
مخلوقات حساسة ولكن...
إضافة إلى آراء العلماء والأطباء حول رهافة حواس القطط، فأن مربي القطط حول العالم موقنون بأنها قططهم هي الأكثر تفردا وتميزا من بين جميع الحيوانات فيما يتعلق بالإحساس والمشاعر والسلوك. لكن هذا كله لا يفسر للأسف موهبة وقدرة اوسكار العجيبة... لماذا؟
ببساطة لأن اوسكار لا يعيش لوحده في الطابق الثالث من مصحة ستير، فهناك ستة قطط أخرى تعيش في ذلك الطابق، فإذا كان الأمر متعلقا بالرائحة فلماذا لم تبدي القطط الأخرى أية قدرات مشابهة لتلك التي أبداها اوسكار. وحتى لو افترضنا جدلا بأن الأمر يتعلق بالرائحة، فما الذي يدفع الهر للصعود إلى أسرة المرضى المحتضرين والجلوس بجوارهم. هل يرى شيئا لا نراه نحن البشر؟ هل هو يفهم ويعي فكرة الموت؟ هل يقوم بالتسلية والتخفيف عن المرضى المحتضرين؟
تذكر عزيزي القارئ بأننا نتكلم هنا عن مرضى مصابين بالخرف، أي أنهم لا يدركون شيئا مما يجري حولهم، فما الذي يدفع الهر أوسكار إلى مواكبتهم ساعة الموت؟ ما معنى جلوسه قربهم.
منقول
هل أعجبك هذا الموضوع؟
شارك هذا الموضوع